اختر قالباً

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، نوفمبر 24، 2010

من مكونات الكفاية القرائية



مهارة الفهم



جامع وارزامن

مدير مركز تكوين المعلمين و المعلمات الجديدة /المغرب

أولا: طبيعة فهم النصوص

يقوم فهم نص أو خطاب على بناء تمثيل ذهني كامل و متسق للوضعية التي يصفها هذا الخطاب أو ذاك النص .و يتم تشييد هذا التمثيل الذهني انطلاقا من معلومات صريحة ذات طبيعة معجمية ( توفرها الكلمات) منتظمة في جمل وفق قواعد ( تركيبية) خاصة بلغة معينة ،وهذه الجمل بدورها تتراكب في متوالية بها تحقق بنية أو بنيات النص.

تفهم النصوص يتطلب، معالجة تتعلق بالعناصر اللغوية و ما تحيل عليه من مفاهيم و علاقات. هما إذن مستويان للمعالجة متكاملان و متنافسان في الوقت ذاته، يتطلب تحقيقهما توفر القارئ على معروفات connaissances لغوية و معروفات مفاهيمية وقدرة على تعبئة و حشد mobilisation النمطين من المعروفات بكيفية متزامنة.

تفهم النص فعل ينتهي بفهم النص المقروء،و يتحدد فهم نص من النصوص بطبيعة النص موضوع المعالجة و بالهدف من فعل القراءة.

ثانيا: هل يمكن تعليم و تعلم مهارة التفهم ؟

حتى نهاية 1970 ، لم يكن احد من المهتمين يثير أو يتصور إمكانية تعليم/ تعلم الفهم في مجال القراءة .كانت الممارسة السائدة هي قراءة النصوص و الإجابة عن الأسئلة ( نص مذيل بأسئلة ) ، تقوم هذه الممارسة على مسلمة ( تستند إلى نتائج المدرسة السلوكية ابتداء من تورندايك1874-1949 إلى سكينر( 1904- 1990) مفادها أن تفهم النصوص يقم على إيجاد وتحديد العلاقات القائمة داخل النص ، و كان الإقتناع بأن أفضل وسيلة لتحسين الفهم هي حمل المتعلمين على الإجابة عن أسئلة تهم هذه العلاقة .ويلاحظ أن اغلب المدرسين اعتادوا أن يقضوا جل وقتهم في طرح أسئلة غالبا ما لا تتنوع و لا تتطلب معالجة المعلومة في عمقها( Giasson 1990) أنشطة غالبا ما تهتم بالهوامش و تبتعد عما هو جوهري أو لا تسمح بتشغيل نهائج processus تسمح بالإبداعية créativité أو توظيف و تطبيق المكتسبات

لقد لاحظ المربون أن بعض الأطفال يوفقون في إنجاز هذه المهام دون حاجة إلى دربة خاصة ، وان منهم من يعجز عن ذلك وان خصصت لتمكينه من ذلك أو لتحسين نتائجه الساعات الطوال.. ولم يكن المربون يرون وقتها من وسيلة لذلك لأنهم كانوا يرون أن الفهم أمر يعود إلى مهارة أو مهارات تتعلق بما يسمونه الذكاء العام . لقد كان الفهم موضوع تقييم و لكنه لم يكن موضوع تعلم ( Pressley 1997)

لزم أن تحدث ثورة مفاهيمية لكي يتم الانتقال من هذا التصور لفعل التفهم إلى تصور آخر بدا يسود اليوم نظرا لما حصل من تراكم في نتائج البحث العلمي في الحقول المهتمة بالموضوع، خلال العقدين الأخيرين من القرن المنصرم و خاصة في مجال علم النفس و علوم التربية .فكانت النتيجة أن أضيئت جوانب خفية من فعل التفهم .

ففي مجال علم النفس المعرفي، تنامت النماذج المؤكدة و المبينة للطبيعة المركبة و المعقدة للأفعال و الأنشطة الذهنية ( كالقراءة و الكتابة و حل المشكلات..)كما سمحت هذه النماذج من خلال ملاحظة سلوكات الخبراء بعزل نهائج نوعية processus spécifiques يمكنها أن تكون موضوع تعليم و تعلم .و كان أن تم التركيز على ما لوعي الفاعل بخطواته و إجراءاته الذهنية métacognition المشتغلة حين الإتيان بفعل ما أو إنجاز نشاط أو مهمة معينة، من دور في تحقيق التعلمات. (Tardif, 1997) و Crahay, 1999))،

كما فتحت نظريات فيكوتسكي Vygotsky و برونرBruner ( التفاعلية الاجتماعية) interactionnisme social ، آفاقا جديدة كاشفة أهمية استثمار "حيز النمو الموالي" (zone de développement proximal) لتذكية طاقات و استعدادات و قدرات المتعلم الكامنة ، فكان أن دفعت هذه النظريات نحو الاعتراف بما للأطفال من وسع و قدرة فعليين لتحقيق إنجازات جد مركبة و على درجة من التعقيد ، شرط أن تتم مصاحبتهم ، ودعمهم و إسنادهم من طرف شخص أكثر خبرة منهم .فقد تبين أن العمل في حيز النمو الموالي للمتعلمين أمر يسمح من خلال التفاعل بتذكية و تنمية سلوكات المتعلمين المحكمة و حملهم تدريجيا على الاستقلالية في تحقيق تعلماتهم.

و في مجال علوم التربية تم التركيز على التعليم الصريح و المباشر لاستراتيجيات التفهم بعدما بين البحث التربوي أهمية هذا النمط من التعليم.

أما البحث في مجال علم النفس المعرفي و خاصة البحوث التي تمكنت من عزل و تصنيف النهائج المعتمدة في إنجاز فعل التفهم، فقدمت جملة من الخلاصات التجريبية تثبت فعالية التعليم الصريح لهذه الاستراتيجيات، بناء على الفروق البارزة بين تفهمات متعلمين تعرضوا لتعليم صريح لهذه الاستراتيجيات و بين تعلمات آخرين لم يستفيدوا من هذا النمط، كما كشفت هذه الأعمال عن صلابة و ديمومة هذه التعلمات.و أن المتعلمين الذين يتعثرون في مهام التفهم هم من يستفيد أكثر حين يتم التركيز على تعليم استراتيجيات تفهم النصوص القرائية . و عليه فقد تبين أن المتعلمين القراء المتعثرين هم إما أولئك الذين لا يتوفرون على استراتيجيات قرائية أو لا يعتمدون على استراتيجيات قرائية واسعة و متنوعة و فعالة، أو متعلمون يشكون من غياب القدرة على تغيير الاستراتيجية تبعا للسياق و إكراهات و متطلبات المقام القرائي .

ثالثا:ما هي خصائص هذا التعليم الصريح لاستراتيجيات التفهم ؟

على خلاف الأنشطة الجسدية، فإن النهائج المعرفية les processus cognitifs غير قابلة لتكون موضوع ملاحظة.و يكون مبدأ هذا التعلم هو جعل الخطوات الذهنية صريحة موعى بها. و تكون هذه المقاربة في جوهرها وعرفة[1][1] ( métacognition ) لأنها تهدف إلى جعل المتعلم القارئ واعيا بما له من آليات معرفية و تمكنه بعد ذلك من أن يختار منها ما هو ملائم لمقامات و سياقات القراءة و الأهداف المتوخاة من الفعل القرائي.

تتعدد استراتيجيات التفهم التي يمكن أن تكون موضوع تعليم و تعلم فقد يتعلق الأمر بتحديد معنى كلمة أو طرح أسئلة لسبر درجة فهمناللمقروء، أو قراءة نص ما قراءة محلقة سريعة لرصد أو تحديد موقع معلومة معينة أو تحديد الأفكار الأساسية فيه…

يسعى التعليم الاستراتيجي إلى إكساب المتعلمين أنماطا متنوعة من المعروفات:

1- معروفات تصريحية، تسمح بتعيين الاستراتيجية و تكون جوابا لسؤال: ما هو…؟ أو ما هي…؟ كسؤال: ( ما هي القراءة المحلقة السريعة ؟)؛

2- معروفات إجراءاتية تبين و تجيب عن سؤال: ( كيف يتأتى القيام بفعل معين؟)؛

3- معروفات شرطية أو ماعونية[2][2] ، تجيب عن أسئلة من نحو : لماذا هذه الاستراتيجية و متى يلزم اعتمادها و في أي سياق ؟

يهدف التعليم الاستراتيجي إلى جعل المتعلم واعيا و مستقلا في بحثه عن المعنى، ولكن للوصول إلى هذه الاستقلالية يحتاج المتعلمون إلى كل الدعم soutien و التسنيد étayage اللازمين و هما من مهام المدرس حين يكون قارئا يقتدى به.

في البدء يكون المدرس مطالبا بجعل النهائج الذهنية المقومة لفعل القراءة و استراتيجياته واضحة ملموسة ، و يتحقق له ذلك من خلال تدخلات محكمة البناء في صيغة وحدات تدريسية séquences didactiques و بعد ذلك و بكيفية تدريجية أن يعمل متى كانت الفرصة مواتية على التحقق من أن المتعلمين يستعملون الاستراتيجيات التي تم تعلمها في الوضعيات القرائية التي تعرض لهم سواء داخل الفصل أو خارجه. و التذكير بها تذكيرا محكما حين تدعو الحاجة إلى ذلك.إذ الهدف هو أن يكون مآل هذا النمط من التعليم استقلالية المتعلم في استعمال و توسيل ما بناه من استراتيجيات.

و من سبل حمل المتعلمين على الاستقلالية في استعمال الاستراتيجيات، توفير وضعيات تعلمية يسود فيها التفاعل بينهم و ذلك بجعلهم يشتغلون ضمن مجموعات صغيرة تحت إشراف المدرس، يكون موضوعها التأليف بين أربع استراتيجيات: التكهن، و تبيين المعنى، وفحص هذه التكهنات و تلخيص النتائج. يتولى المتعلمون متناوبين تشغيل كل استراتيجية من هذه الاستراتيجيات على مستوى فقرات النص ( يستحسن في البداية أن تكون النصوص المعتمدة نصوصا إخبارية محكمة البناء تتخللها عنواين فرعية و/ أو رسومات تسند فعل التوقع )، و يتولى المدرس قيادة كل متعلم على حدة نحو امتلاك استراتيجياته في الوقت الذي يقوم فيه بقية المتعلمين بردود فعل لتتميم ما تعذر على زميلهم، أو اقتراح تعديلات عليه أو طرح أسئلة تهدف إلى الاستيضاح.يكون دعم المدرس قوي الحضور في البداية ليخف بالتدريج لاحقا.

فضل هذه العدة، التي بينت الأبحاث فعاليتها، هو كونها تسمح بالتفريد individualisation ، لأن مجال اشتغالها هو حيز النمو الموالي للمتعلمين ، و كونها تسمح بالتأليف بين الاستراتيجيات في وضعيات قرائية أقرب ما تكون من سياقات القراءة الحقيقية.

رابعا : ما هي استراتيجيات التفهم الأجدر بالتعليم و التعلم ؟

معلوم أن استراتيجيات التفهم كثيرة و تعدادها يستوجب حيزا أوسع، و لكن يمكن حصر أهمها في مجموعة من الاستراتيجيات المؤسسة لفعل قرائي منتج و التي تكون دائمة الحضور كيفما كانت النصوص أو مقامات القراءة، وهي استراتيجيات يلزم أن تكون موضوع تعليم و تعلم منذ التعليم الأولي على أن تنمى و توسع بالتدرج في المراحل التعليمية الموالية و تبعا لتوالي مراحل نمو المتعلمين.و هي استراتيجيات متعالقة متكاملة و الفصل بينها ليس إلا لغاية التوضيح.

المجموعة الأولى من هذه الاستراتيجيات متعلقة بنهائج الوفهمة[3][3] غايتها حمل المتعلمين على الوعي بأنهم لا يفهمون و حثهم على علاج فقدان الفهم أو غيابه. اكتساب هذا النمط من الاستراتيجيات هو المعول عليه ليسهم في بناء تصور أساسي عند صغار متعلمي القراءة مفاده :أننا نقرأ من أجل الفهم، و هو تصور قلما يكون حاضرا عند متعلمي المرحلة الأولية ( رياض الأطفال ).(Bernardin, 2001)

و بالتدرج و خلال المراحل الدراسية الموالية ، تتم بنينة structuration استراتيجيات تلزم لتحقيق التفهم و المحافظة على استمراريته: كالتساؤل أثناء القراءة للتأكد من حصول الفهم ، إعادة قراءة السابق ، الانتقال إلى موقع في النص بعيد نوعا ما عن موقع القراءة الحالي ..هذه كلها استراتيجيات تتنامى بتوالي السنوات الدراسية.

المجموعة الثانية تتعلق بالنهائج المقومة و المؤسسة لتبيين[4][4] المعنى، و هي وثيقة الصلة بما ذكر سبق، ذلك أن الطفل الذي لا يسعى إلى التفهم أو لا يعلم بأنه لم يحقق فهم المقروء، طفل كهذا لا يزعجه عدم فهمه للكلمات أو الجمل، و مثل هذا الموقف كثير الورود عند الأطفال المبتدئين، لان هدفهم ليس تفهم و فهم المكتوب و إنما استعجال الانتهاء من مهمة لا يرون لها فائدة و لا يدركون لها معنى. و لذلك يكون لازما و منذ التعليم الأولي أن يتم حمل الأطفال على التفهم المنتج للمعنى، و يكون ذلك مثلا بأن يتوقف المدرس، حين تعرض له أثناء القراءة كلمة يرى أنها قد تعرقل الفهم: >>هل تعرفون معنى هذه الكلمة ؟ أنا لا اعرفها، ماذا تعني في رأيكم…؟ كيف نتصرف حين نجهل معنى كلمة ما…؟ >>، و يكون الاشتغال على الضمائر و أسماء الإشارة و أسماء الموصول و على المترادفات، عدة بناء و تنمية هذا النمط من الاستراتيجيات.

لا أحد ينكر أن المدرسين يشرحون لمتعلميهم الكلمات الصعبة الواردة في النصوص القرائية و لكن التعليم الاستراتيجي يذهب أبعد من ذلك، إذ الهدف ليس تزويد المتعلم برصيد معجمي فحسب و إنما جعل المتعلم يعي و يدرك وجود استراتيجيات ناجعة لحل المشاكل و تجاوز الصعوبات التي تعترض فعل التفهم و تحول دون تحقق الفهم، فبدلا من جعلهم يتعودون تجاهل المشكل القائم أو الوقوف إزاءه عاجزين عن التقدم، يلزم إكسابهم من الخطوات و الإجراءات ما به يحققون استقلاليتهم في مواجهة الصعوبات و تجاوز العقبات، كالرجوع إلى القاموس، أو استثمار السياق المحيط بالكلمة أو الجملة، و الاستعانة بالرسوم المصاحبة للنص، أو استحضار كلمات مشابهة.خلاصة الأمر تعليمهم وضع الفرضيات و فحص سلامتها و روز صحتها إذ هو العدة الأساسية المعول عليها في كل مراحل بناء المعنى.

يكون إذن من المجدي ، في المراحل الأولى تشجيع الأطفال على البحث عن المؤشرات المبثوثة في ثنايا النص أو في حواشيه صورا و رسوما، وغير ذلك من المؤشرات التي تعتمد في بناء كتب القراءة الخاصة بالتعليم الأولي ، و يكون الهدف من رصد هذه المؤشرات هو تمكين الأطفال من بناء قدرتهم على وضع الفرضيات القرائية، ذلك أن هذه القدرة هي أساس تعلم القراءة في المراحل الدراسية الموالية، ويلزم الحرص على تنميتها و ترسيخها لتصبح روشما [5][5] يؤسس للمهارات المكونة للكفاية القرائية التي تعمل المراحل الموالية للتعليم الأولي على بنائها .

إرسال تعليق