السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تختلف اللغة المكتوبة عن اللغة الشفاهية ، فعلى سبيل المثال ، فإن الموقف اللغوي فيها قد يساوي في القيمة صفراً ، " فالكتابة تخلق ما سماه بعض الباحثين لغة ( طليقة من السياق ) ... أو الخطاب ( المستقل ) ، وهو خطاب لا يمكن مساءلته أو معارضته ، على نحو ما يحدث في الخطاب الشفاهي ؛ ذلك لأن الخطاب المكتوب منفصل عن مؤلفه "( والتر ج . أونج : الشفاهية والكتابية ، مرجع سابق ، ص 157 .). وهذا الانفصال إنما هو بعد الفراغ من الكتابة ، أما في أثناء الكتابة فهو مستغرق في المكتوب إلى درجة التماهي ، ولذلك فهو يحافظ على معيارية الكتابة ، فيستعمل الجمل المنتظمة ، ويحاول توضيح كل ما يتعلق بالمعنى ، فيجنح إلى الجمل الطويلة المترابطة ، ويحاول أن يختار أفضل الكلمات والعبارات المؤدية للمقصود ، معتمداً على ما لديه من وقت كاف للتعديل والتحسين والتشذيب ، وهو يوجّه حديثه في الغالب إلى قارئ محتمل بصفة الغائب بخلاف المتكلم الناطق الذي يوجه حديثه إلى مخاطب حاضر ، ثم إن فقد الكتابة لبعض أدوات اللغة المنطوقة المهمة كالنبر والتنغيم والوقف يجعلها تستعيض عن ذلك ببعض علامات الترقيم ولكن تلك العلامات لا تؤدي وظيفة تلك الأدوات تماماً ؛ ولذلك فإن رولان بارت لا يزال يحلم بكتابة بصـوت مرتفع تحقق جمـاليات لـذة النص و يصفُهابأنها" لغة مكسوة بالبشرة نصٌ نستطيع أن نسمع فيه غنة صوت الحنجرة "( رولان بارط : لذة النص ، ترجمة : فؤاد صفا والحسين سحبان ، دار توبقال ، الدار البيضاء ، الطبعة الثانية ، 2001 ، ص 65 .)،ولكن هذا الحلم لا يمكن أن يتحقق إلا بقلم عصبوني ناطق يشبك في إحدى الأصابع فيؤدي وظيفة أعضاء النطق ، وهذا حلم آخر أيضاً . وحتى تكون خصائص اللغة المكتوبة واضحة بصورة أجلى من المحبذ إيراد تلك الخصائص من خلال الفروق التي فرق بها اللسانيان الأمريكيان ( أوكس ) ، و ( تشيف ) بين اللغتين المنطوقة والمكتوبة ، مع ملاحظة بعض التنبيهات التي وضعها الباحث بين قوسين معكوفين، وقد استند اللسانيان الأمريكيان في تفريقهما على أساسين : هما البناء ، والمقاميات ، فمن حيث البناء تتمثل أهم خصائص اللغة المكتوبة في الإيجاز التالي : أولاً : اللغة المكتوبة تُتعلم في مرحلة لاحقة ، فهي ثانوية مكتسبة بهذا المعنى . ثانياً : تستعمل اللغة المكتوبة تراكيب نحوية معقدة من نحو ( جملة الصلة ، وجملة العطف ، وجملة الشرط ) زيادة على استخدامها أدوات شكلية مترابطة ومكثفة .[ ويجب هنا أخذ الفروق بين اللغات الإنسانية في الاعتبار ، إذ إن التراكيب النحوية المعقدة أمر نسبي يختلف من حيث الاستعمال من لغة إلى أخرى ، كما يجب النظر إلى ظروف بعض اللغات عند استعمال هذا المقياس ، فالسمات الكتابية للغة العربية الفصيحة المعاصرة ، من حيث التركيب تقترب كثيراً من سماتها الشفاهية .] ثالثاً : يتم تصحيح اللغة المكتوبة بطريقة تسمح بتماسك أكثر ؛ إذ يتم التصحيح في وقت الإعداد لها أي قبل نشرها . رابعاً : اللغة المكتوبة على العموم لغة مضغوطة (Compact) ، فيها تركيز على الأركان اللغوية المقدمة من أجل العناية والقصد . وفيها درجة عالية من الوحدة (Intergration) ، نتيجة لصفة البطء في الكتابة . خامساً : يستخدم الخطاب المكتوب غالباً الأفعال المبنية للمجهول ، ويركز على الحالات الثبوتية ، وموضوعاتها ، وأكثر الأفعال المستخدمة فيه هي الدالة على الاستقبال ،[ وهنا ينبغي حساب عامل النسبية بين اللغات الإنسانية وظروف اللغات المختلفة ، إذ من أكبر الخطأ تعميم هذه الأحكام على كل لغة مكتوبة ]. سادساً : المعلومات الواردة في الخطاب المكتوب عبارة عن أفكار مجمَّعة في جمل طويلة ، مظهرة العلاقات القائمة بين تلك الأفكار [ وقد لا يقتصر هذا الأمر على اللغة المكتوبة ، فقد تتصف اللغة المنطوقة بهذه الصفة في بعض أنواع النصوص الشفاهية] سابعاً : لا تستطيع علامات الترقيم في اللغة المكتوبة التعويض عن التنغيم والنبر والوقفات وحركات الجسم وتعبيرات الوجه في اللغة المنطوقة . أما الخصائص التي يمكن رصدها للغة المكتوبة من حيث المقاميات فهي الآتي : أولاً : تتوجه اللغة المكتوبة إلى شخص غائب . ثانياً : يقوم الخطاب المكتوب بتقديم المعلومات على نحو تقريري دون إشارة إلى شعور المتكلم حول الحقائق المقدمة ، أي إن صفة التقييم في الخطاب مفقودة في حين أن للمتكلم أن يوضح ما يتحدث عنه بأكثر من طريقة . ثالثاً : يتصف الخطاب المكتوب بدرجة عالية من القصدية، و الانفصال (Detached)، أي انفصال المتكلم عن الموضوع المكتوب . رابعاً : إن اللغة المكتوبة علامة يمكن تكرارها ليس فقط في غياب منشئها في مقام معين بل لمتلقٍ معين ، فهي تخترق سياقها الواقعي ، وتقرأ في سياق آخر مختلف بغض النظر عما نواه ذلك المنشئ . خامساً : الإشارة المكتوبة عرضة للانزواء (Spacing) ؛ فهي تكون منفصلة عن بقية الإشارات في سلسلة سياقة معينة ، وهي منفصلة عن الإحالة الحاضرة ، أي أنها تشير إلى شيء قد لا يكون فيها حاضراً ، وواقعياً .( نقلت هذه الخصائص بتصرف من : هادي نهر : الكفايات التواصلية والاتصالية ( دراسات في اللغة والإعلام ) ، مرجع سابق ، ص ص 168- 170) تلك كانت أهم الخصائص للغة المكتوبة ، ولكنها خصائص تتمثل في النص المكتوب الذي تم إنتاجه كتابة منذ البداية ؛ إذ إن عملية الإنتاج الكتابية هي التي تعطي النص الخصائص الكتابية التي لها نتائج مهمة في تكوين النص وفهمه وفي التفاعل مع النص المكتوب الذي ينتج عنه ما يلي : "ـ أن الكاتب يحتاج مزيداً من الوقت لتكوين النص أكثر من تحقيق الأهداف المقابلة في إطار الاتصال المنطوق ( مما يزيد بالطبع أيضاً من كفاءة النص المكتوب ) . ـ أنه سيعنى بتوزيع معين للمعلومة ـ يتناسب مع العلم المسبق للشريك واهتماماته ـ وبناء النص . ـ أنه يجب أن يدلل على قصده ( وشروط فهم سياقية معينة ) بأي صيغة كانت . ـ أن يقرب إلى القارئ تحديث نماذج الحدث والبناء الضرورية لفهم النص حسب الإمكان بواسطة إشارات مسبقة . ـ أن يراعي الشروط الممكن التنبؤ بها لاستقبال النص عند تكوينه . ـ أن يبحث ـ اعتماداً على علاقته الاجتماعية بالشريك ـ أيضاً عن صياغات لغوية مناسبة ."( فولفجانج هاينه من وديتر فيهفيجر : مدخل إلى علم اللغة النصي ، ترجمة الدكتور فالح بن شبيب العجمي ، مرجع سابق ، ص 309 .) ما سبق من خصائص الكتابة ينبغي أن يؤخذ في الحسبان إضافة إلى ما جد من خصائص في الانترت ، وفي غيره من وسائل الاتصال ،لأثرها الواضح في توصيل الفكرة بل لأثرها حتى في الفكرة ذاتها .
إرسال تعليق